نظرًا لأن التدريبات العسكرية الصينية الأخيرة كانت الأكبر والأكثر كثافة حول تايوان، فهناك مخاوف متزايدة من أن سوء التقدير قد يؤدي إلى أزمة عبر المضيق لا تؤدي إلى عواقب عسكرية محتملة فحسب، بل وعواقب اقتصادية بعيدة المدى أيضًا.
برزت المخاطر المتزايدة مرة أخرى إلى الواجهة عندما أجرت الصين تدريبات عسكرية جديدة يوم الاثنين (16 أغسطس) حول الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي، منتقدة زيارة جديدة لم يعلن عنها من قبل المشرعين الأمريكيين إلى تايبيه بعد زيارة مماثلة قامت بها رئيسة مجلس النواب الأمريكي “نانسي بيلوسي” في وقت سابق من هذا الشهر، وقد أثار ذلك رد فعل غاضب من بكين.
التقى وفد الكونجرس المكون من خمسة أعضاء بقيادة السناتور “إد ماركي” بالرئيس “تساي إنغ ون” مما أثار إدانة قوية من بكين، التي تدعي أن تايوان جزء من أراضيها، وتعتبر مثل هذه الزيارات انتهاكًا لمبدأ “الصين الواحدة”.
لمحاولة إدارة التوترات المتصاعدة حول تايوان والتأكد من أن المنافسة الصينية الأمريكية لن تؤدي إلا إلى صراع، ورد أن الرئيس الصيني “شي جين بينغ” يتطلع إلى عقد أول لقاء شخصي له مع الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في نوفمبر الذي يعد هو الأول منذ تنصيب بايدن.
إلى جانب التداعيات العسكرية، من المحتم أن يكون لتصعيد الموقف تداعيات اقتصادية، حيث أظهرت بكين في وقت سابق من هذا الشهر أنها مستعدة لاستخدام الأدوات الاقتصادية لزيادة الضغط على تايبيه، التي ظلت متحدية طوال المواجهة مع الصين.
على سبيل المثال: بعد زيارة بيلوسي أوقفت الصين صادرات الرمال الطبيعية إلى الجزيرة والتي تعتبر أساسية لأعمال البناء، وأوقفت الواردات من تايوان لأنواع معينة من الفاكهة والأسماك، ومع ذلك، يقول المحللون إن مثل هذه الإجراءات من المرجح أن يكون لها تأثير طفيف على اقتصاد تايوان.
اقتصادات متكاملة بشكل وثيق
لا تعد الصين أكبر سوق تصدير لتايوان فحسب بل هي أيضًا أكبر مصدر لوارداتها، فهي تمثل حوالي 33% من إجمالي التجارة الخارجية للجزيرة، مما يعني أن الإجراءات الاقتصادية الأكثر صرامة يمكن أن يكون لها تأثير كبير على اقتصاد تايوان.
ومع ذلك، فإن الاقتصادين متشابكان أيضًا بشكل وثيق لا سيما صناعات الإلكترونيات الخاصة بهما، مع كون تايوان المصدر الرئيسي للصين للدوائر المتكاملة المستوردة، في عام 2023 ذهبت 42% من إجمالي صادرات تايوان إلى الصين بما في ذلك هونغ كونغ، وشكلت أشباه الموصلات ما يقدر بـ 35% من إجمالي صادرات الجزيرة في العام الماضي، مما يسلط الضوء على أهمية صناعة الإلكترونيات في تايوان ليس فقط للصين ولكن أيضًا لسلاسل التوريد التصنيعية العالمية.
دفع التكامل القوي بين الاقتصادين الصيني والتايواني بعض المحللين إلى القول إن هناك فرصة ضئيلة للغاية لفرض الصين عقوبات اقتصادية أكثر صرامة على الشركات التايوانية، حيث سيؤدي ذلك إلى الإضرار بقطاعات مهمة من الاقتصاد الصيني، تراجع الاستثمار العالمي لذلك من غير المرجح أن تختار بكين هذا الطريق أي فرض عقوبات تجارية كبرى تستهدف تايوان بما سيضر باقتصاد شرق آسيا بالكامل.
علاوة على ذلك، إذا اندلع الصراع فمن المرجح أن تواجه الصين (التي تعتمد بشكل كبير على الصادرات للحفاظ على النمو الاقتصادي) مجموعة من العقوبات الدولية والمقاطعات للسلع والخدمات الصينية الصنع تمامًا كما تواجه روسيا الآن في حربها ضد أوكرانيا.
ومع ذلك، كما يتضح من غزو موسكو، فإن مخاطر الصعوبات الاقتصادية لا تكفي دائمًا لردع المعتدي عن تحقيق هدف معين، إذا كانت إعادة توحيد تايوان مع البر الرئيسي تعني ما يكفي بالنسبة للصين، فسيكون ردع بكين تحديًا كبيرًا بغض النظر عن العواقب الاقتصادية.
تكلفة أزمة كاملة
إن تأثير أزمة مضيق تايوان التي من شأنها قطع صادرات تايوان عن بقية العالم سيكون محسوسًا بالنسبة لدول العالم، والسبب في ذلك هو أن تايوان تهم الاقتصاد العالمي أكثر بكثير فحصتها من اجمالي الناتج المحلي العالمي تبلغ نحو 1%.
تايوان التي تتكامل أيضًا بشكل وثيق مع اقتصادات اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، هي إلى حد بعيد أكبر منتج في العالم لرقائق المعالجات التي تنتشر بشكل متزايد في كل مكان في المنتجات الجديدة، كما أن تهيمن على صناعة أشباه الموصلات بنسة 92% عالميًا من خلال مصنعها العالمي TSMC، وهذا يمثل خطرًا على الاقتصاد العالمي في حالة وجود صراع في تلك المنطقة.
حتى لو تم تجنب صراع كامل، فإن الحصار العسكري للجزيرة سيظل يسبب صدمة اقتصادية كبيرة للاقتصاد العالمي لأنه سيؤدي إلى نقص متجدد في قطاعي السيارات والإلكترونيات ويزيد من الضغط التصاعدي على التضخم.
يجادل البعض حول نقطة الضعف الرئيسية لتايوان هي اعتمادها على الوقود المستورد، مشيرين إلى أن حظر الوقود يمكن أن يشل صناعات الجزيرة قريبًا، لأنه سيؤدي إلى اضطرابات كبيرة في إمدادات الطاقة وربما توقف التصنيع، فقط 12% من طاقة تايوان تأتي من الوقود المنتج محليًا أو المصادر المتجددة أو الطاقة النووية، وبالتالي فإن نقطة الضعف الرئيسية هي إمدادات الكهرباء فهي تعتمد بشكل متزايد على الغاز الطبيعي المسال المستورد (LNG).
37% من الكهرباء تم توليدها بالغاز في العام الماضي، ومن المقرر إغلاق آخر محطة نووية عاملة في تايوان في عام 2025، ولدى الحكومة هدف طويل الأمد يتمثل في سد الفجوة بمزيد من الطاقة الغازية، وبالتالي فإن انقطاع واردات الغاز الطبيعي المسال سيؤدي بالتالي إلي انخفاض كبير في قدرة توليد الطاقة في غضون أيام.
إذا تعطلت إمدادات أشباه الموصلات في تايوان لفترة طويلة، فإن مصنعي الإلكترونيات والسيارات سيواجهون صعوبة في العثور على موردين بديلين، مما يجبر العديد من الشركات على وقف الإنتاج، وفي حالة تعرض مرافق الإنتاج لأضرار بالغة، سيستمر التعطيل حتى تتم إضافة طاقة تصنيع بديلة في آسيا أو في أي مكان آخر.
يستغرق بناء مصنع أشباه الموصلات من الصفر ما بين سنتين إلى ثلاث سنوات، إن استبدال القدرة التصنيعية المفقودة سيكون مكلفًا للغاية، يكلف مصنع أشباه الموصلات الجديد عشرات المليارات من الدولارات، في الواقع، يهيمن مصنع TSMC على هذه الصناعة الضرورية بسبب ريادته التكنولوجية.
وسيكون من المستحيل إعادة إنشاء مرافق TSMC الأكثر تقدمًا بدون موظفيها والملكية الفكرية، مما يعني أنه كلما استمر الاضطراب لفترة أطول زادت التكاليف غير المباشرة التي يتحملها الاقتصاد العالمي، سيكون التوسع وإطلاق خدمات وشركات جديدة أكثر صعوبة.
وسط تلك المخاطر المتزايدة، بدأت الدول التي تعتمد على أشباه الموصلات التايوانية في اتخاذ إجراءات ضرورية، على سبيل المثال: وقع بايدن مؤخرًا على حزمة إنفاق بموجب قانون CHIPS والعلوم الذي يخصص 52 مليار دولار لتعزيز تصنيع الرقائق الأمريكية، وهي خطوة تهدف إلى تقليل التعرض لاضطرابات سلسلة التوريد أو التأخير في واردات أشباه الموصلات. .
علاوة على ذلك، يهدف مصنع TSMC إلى بناء مصنع للرقائق في الولايات المتحدة، وتخطط واشنطن للعمل بشكل وثيق مع اليابان وكوريا الجنوبية في صناعة أشباه الموصلات.
خطر الفصل
لكن ماذا يعني هذا بالنسبة للصين؟ في حين أن لدى بكين خيارات أخرى غير غزو واسع النطاق لإجبار تايوان على الخضوع لسيطرتها السياسية، فإن أي سيناريو يخل بالتوازن عبر المضيق الحالي قد يخاطر بمزيد من التصعيد الذي قد يؤدي إلى فصل قوي بين الصين والغرب، على سبيل المثال: يمكن للصين أن تضغط على تايبيه من خلال الاستيلاء على واحدة أو أكثر من الجزر غير المأهولة التي تسيطر عليها تايوان في بحر الصين الجنوبي.
ستتخذ الشركات في جميع القطاعات خطوات لفصل عملياتها التي تواجه الصين عن تلك التي تخدم الأسواق في أماكن أخرى، وسيتم تشديد القيود على صادرات التكنولوجيا إلى الصين وقد تستجيب الدول الغربية لإخلال الصين بالوضع الراهن في المضيق من خلال توضيح دعمها لتايوان بشكل أكثر وضوحًا.
إذا حاولت الصين غزو تايوان بغض النظر عما إذا كانت قد نجحت أم لا، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تجميد الأصول وقطع معظم العلاقات الاقتصادية والمالية، على الرغم من أن مثل هذا الانتقام الاقتصادي قد يكون من الصعب تحمله بالنسبة للعديد من الدول الغربية، التي تعتمد على التجارة مع بكين أكثر بكثير مما كانت عليه مع موسكو.
ومع ذلك، فإن أكبر عامل ردع لبكين لن يكون على الأرجح الجيش التايواني أو العقوبات الاقتصادية، بل توقع مشاركة الولايات المتحدة وربما بعض أقرب حلفائها في الدفاع عن تايوان، ولكن الشكل الذي ستتخذه هذه المشاركة غير واضح، لأن التدخل العسكري المباشر من شأنه أن يخاطر بإشعال صراع إقليمي أوسع.
في الوقت نفسه، يمكن أن تصبح الصين نفسها موضوع حصار محتمل لناقلات النفط وسفن الشحن في مضيق ملقا ثاني أكبر ممر لتجارة النفط في العالم بعد مضيق هرمز، يمكن استخدام مثل هذا الحصار البحري من قبل قوة معادية لحرمان الصين من موارد الطاقة الحيوية والتأثير المحتمل على الاستقرار السياسي في البلاد.